الدَّم في الكتاب المقدَّس
مقدمة
الدَّم في العبريَّة: (דם) دم، وفي اليونانيَّة: (αίμα) ايما، هو الحياة1 أو العنصر الماديّ فيها، وبما أن الحياة مقدَّسة أمام الله فقد قيل عن دم هابيل أنَّه صرخ إلى الله من الأرض طالبًا الانتقام له2، وبعد الطُّوفان مباشرة حرَّم الله أكل دم الحيوانات مع أنَّه صرّح بذبحها وأكلِها كطعام
في عصر اليهوديَّة المتأخِّرة وفي العهد الجديد، تدلّ الكلمتان لحم ودم على الإنسان من حيث طبيعته الفانية3، هذا هو الوضع الّذي اتّخذه ابن الله بمجيئه إلى الأرض4، إلاَّ أنَّ الكتاب المقدَّس باستثناء هذه الحالة، لا يهتم إلاَّ بالدَّم المسفوك المرتبط دومًا بالحياة المفقودة أو المبذولة، على خلاف الفكر اليونانيّ الَّذي يربط الدَّم بالقرابة وانفعالات الإنسان، وقد نصّت الشَّريعة على أنَّ سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه، وفقدان الحياة هو عقاب الخطيئة، وكان من الضروريّ أن تسلَّم هذه الحياة رمزًا حتى تمحى الخطيئة “وما من مغفرة بغير إراقة دم”5 ولذا نصّت الشريعة الموسويَّة على أن دم الذَّبائح الَّتي تذبح أو تُصطاد لأكلها طعامًا ينبغي أن يغطيها التُّراب لأنَّ الله منع تناول الدَّم كطعام وخصَّصه للتَّكفير عن الإثم6
يُستعمل الدَّم في عدد من الطُّقوس ولا سيّما طقس العهد7، لهذا ظلّ يلعب دورًا هامًّا في لاهوت العهد الجديد، حيث دم المسيح8 أو دم الحمل9 يختم العهد الجديد10، وكما أن العنب هو “دم الكرمة”11 فالمشاركة في دم المسيح" الذي هو “الكرمة الحقيقية”12 يتمّ في الطَّقس الإفخارستيّ13 الَّذي فيه يشرب المؤمن دم المسيح14 أي نتاج الكرمة15
العهد القديم
على غرار الأديان القديمة، تُعطي الدِّيانة اليهوديَّة للدَّم طابعًا قدسيًّا، لأن الدَّم هو الحياة16، ولأن كل ما له علاقة بالحياة له علاقة وثيقة بالله سيِّد الحياة الأوحد، ومن هنا برزت النتائج الثلاث: تحريم القتل، والامتناع عن أكل الدَّم، واستعمال الدَّم في العبادة
أوَّلاً: تحريم القتل
لقد صنع الله الإنسان على صورته، لذا فهو وحده له السُّلطان على حياته، وكل من يسفك دم الإنسان- يحاسبه الله كائنًا من كان17. ذلك هو الأساس الدِّينيّ للوصيَّة الواردة ضمن الوصايا العشر: “لا تقتل”18. في حالة القتل، يصرخ دم الضَّحيَّة طالبًا الانتقام من القاتل، كما كان الحال في مقتل هابيل19. ويعتبر العرف عندئذ فعل المنتقم للدم شرعيًّا20، إلا أنَّه يحاول التَّخفيف من شدَّة الانتقام بأن يجعل الله نفسه يتكفَّل بهذا الانتقام، فيردّ الدَّم البريء على رأس الَّذين أراقوه21. من أجل ذلك، يلجأ إليه المؤمنون المضطهدون، لينتقم لدم عبيده22 وهو نفسه يعد بأنَّه سيفعل ذلك عندما يأتي يومه23
ثانيًا: الامتناع عن أكل الدَّم
إن تحريم أكل الدَّم واللحم. الَّذي لا يراق طقسيًّا يسبق زمن الوحي الإلهيّ، ولا يستطيع الإنسان أن يستخدمه إلاَّ لأغراض تكفيريَّة24. سيظلّ تحريم الدَّم هذا قائمًا فترة من الزَّمن، في بداية المسيحيَّة، تيسيرًا للشَّركة في المائدة بين اليهود والوثنين المهتدين25
ثالثًا: استعمال الدَّم في العبادة
يحدّد الطَّابع القدسيّ للدَّم مختلف استخدامات في طقوس العبادة
أ) يختم العهد بين الرَّب وشعبه بذبيحة طقسيَّة: يرش دم الضَّحايا، نصفه على المذبح الذي يمثِّل الله والنِّصف الآخر على الشَّعب، ويشرح موسى هذا الطَّقس: “هوذا دم العهد الذي عاهدكم الرَّب به…”26. هكذا يقام رباط غير قابل للانفصام بين الله وشعبه27 يشكّل الدَّم في الذَّبائح العنصر الأمانيّ، سواء تعلق الأمر بالنَّحر أم بذبيحة السَّلام أو ببعض طقوس التَّكريس، فالكهنة يرشُّونه على المذبح وحوله28. أمَّا في طقس الفصح، فيأخذ دم الحمل معنى آخر: فرشّه على قائمتي الباب وعتبته العليا29 يحمي البيت من الضَّربات المهلكة[^30
ب) للدَّم أهمية كبرى في طقوس التَّكفير لأن الدَّم مكفّر عن النَّفس30. ينضحه الكهنة بالرَّش31. وفي يوم الغفران بنوع خاص، يدخل عظيم الأحبار قدس الأقداس بدم الضَّحايا المقدّمة عن خطاياه وخطايا الشَّعب32
ج) وأخيرًا، لدم الذَّبائح قيمة خاصَّة في أعمال التَّكريس، ففي طقوس تكريس الكهنة33 وتكريس المذبح، يشير إلى الانتماء التَّام لله
العهد الجديد
يضع العهد الجديد حدًّا للذَّبائح الدَّمويَّة المستخدمة في العبادة اليهوديَّة، ويبطل الترتيبات الشَّرعيَّة الخاصَّة بالانتقام للدَّم، وذلك لأنَّه يعترف بمعنى وقيمة “الدَّم البريء” و"الدَّم الكريم"34، المراق لفداء البشر
أولاً: الأناجيل الإزائيَّة
إن يسوع، في لحظة مواجهته للموت مواجهة واعية، يفكّر في مسؤولية أورشليم، التي اغتالت الأنبياء من قبل، وهو نفسه سيسلم للموت، وسيقتل مرسلوه بدورهم، ولا يمكن لحكم الله على المدينة الأثمة إلا أن يكون رادعًا، سيقع على هذا الجيل كل الدَّم الزَّكيّ، المسفوك على الأرض، ابتداءً من دم هابيل35. ثم تدخل آلام المسيح في هذا الإطار الدراميّ: فيهوذا يعترف بأنه أسلم الدَّم الزَّكيّ36، وبيلاطس يبرئ نفسه منه فيغسل يديه، في حين يأخذ الشعب المسؤولية على نفسه37. ولكنّ للدرامة وجهًا آخر. ففي العشاء الأخير، قدَّم يسوع كأس الإفخارستيَّا، كدم العهد المراق من أجل جماعة كثيرة لغفران الخطايا38. فإنّ جسده المقدَّم ودمه المسفوك يجعلان إذًا من موته ذبيحة ذات مغزى مزدوج: ذبيحة عهد" تقيم العهد الجديد بدلاً من عهد سيناء، وذبيحة تكفير" تبعًا لنبوءة عبد الرَّب، ويصبح هكذا الدَّم المسفوك ظلمًا دم الفداء
ثانيًا: القديس بولس
يعبّر بولس عادة عن معنى صليب المسيح بذكر دمه الفادي، فبدم يسوع يقوم من الآن فصاعدًا، بالنِّسبة إلى كلِّ الشَّر، بالدُّور الَّذي كان يقوم به فيما مضى الغشاء (غطاء التَّابوت)، في رتبة الكفَّارة39 : إنّه موضع الحضور الإلهيّ، كما أنَّه يحقِّق غفران الخطايا، لأن لدمه قوَّة خلاصيَّة، بفضله حصل لنا البر40، وكان لنا الفداء41، وصرنا ملكًا لله42 به تتمّ الوحدة بين اليهود والأمم43، وبين الشَّر والقوَّات السَّماويَّة44 على أن دم العهد الجديد هذا يستطيع البشر أن يشتركوا فيه، عندما يشربون من كأس الأفخارستيَّا45. عندئذ يصبح بينهم وبين الرَّب اتحاد عميق ذو طابع اسكاتولوجيّ، لأنَّهم يخبرون بموت الرَّب ويبشّرون بمجيئه46
ثالثًا: الرِّسالة إلى العبرانيين
ترى الرِّسالة إلى العبرانيين في دخول الكاهن الأعظم قدس الأقداس بدم الكفّارة صورة نبويَّة للمسيح الدَّاخل إلى السَّماء بدمه الخاص، ليكتسب لنا فداء أبديًا47. وتقترن هذه الصُّورة بصورة ذبيحة العهد التي قدّمها موسى على جبل سيناء: فدم يسوع، دم العهد الجديد، يقدم ليغفر خطايا البشر48، به يجد الخطأة سبيلا ًإلى الله49. وإذ هو أفضل من دم هابيل50، فهو يحقق تقديسهم 51 ودخولهم ضمن قطيع راعي الخراف العظيم
رابعًا: رؤيا يوحنَّا
يردِّد كتاب الرؤيا صدى التَّعليم المشترك في الكنيسة، عندما يتكلَّم عن دم الحمل: قد غسلنا هذا الدَّم من خطايانا52، وبافتدائنا لله، جعل منا مملكة من الكهنة53. يتّخذ هذا التَّعليم أهميَّة عظمى، إذا لاحظنا الزَّمن الَّذي يكتب فيه الرائي ففي أيامه هذه تسكر بابل مدينة الشَّر، من دم الشُّهداء54. أمَّا هؤلاء فقد غلبوا الشَّيطان بفضل دم الحمل55، إلاَّ أن دمهم المسفوك لا يزال يصرخ، طالبًا تنفيذ العدالة. إن الله سينتقم لهذا الدَّم إذ يسبقه للذين سفكوه56، ريثما يسفك دمهم بدوره، فيصبح زينة النَّصر لكلمة الله الدَّيان57. عن هذه الرُّؤية يختلف تمامًا تأمُّل يوحنا الإنجيليّ في دم يسوع، فمن جنب المسيح المطعون بالحربة، رأى الماء والدَّم يخرجان58 : شهادة مزدوجة حب الله، مؤيِّدة لشهادة الرُّوح59. ولا يزال هذا الماء وهذا الدَّم يظهِران في الكنيسة قوّتهما المحيية. فالماء هو علامة الرُّوح الَّذي يعطينا الحياة الجديدة بالميلاد الثَّاني ويروي عطشنا60. والدَّم يوزّع على البشر في الإحتفال بالإفخارستيا" من أكل جسدي وشرب دمي أقام فيَّ وأقمتُ فيه"61
(تث 12: 23) ↩︎
(تك 4: 10) ↩︎
(سيراخ 14: 18، 17: 31، يوحنا1: 13) ↩︎
(عبرانيين 2: 14) ↩︎
(عب 9: 22) ↩︎
(لا 17: 10-14 وتث 12: 15 و16) ↩︎
(خر 24 :3-8؛ رج عب 9 :18-20) ↩︎
(1كور 10 :16؛ 11 :27؛ أف 2 :13؛ عب 9 :14؛ 10 :19؛ 1بط 1 :2؛ 1يو 1 :7) ↩︎
(رؤ 7 :14) ↩︎
(لو 22 :20؛ 1كور 11 :25) ↩︎
(تك 49 :11؛ تث 32 :14؛ سي39: 26) ↩︎
(يو 15 :1-8) ↩︎
(مت 26 :27-29) ↩︎
(يو 6 :54-56) ↩︎
(مت 26 :29؛ مر 14 :25) ↩︎
(لاويين 17: 11 و 14، تثنية 12: 23) ↩︎
(تكوين 9: 5- 6) ↩︎
(خروج 20: 13) ↩︎
(تكوين 14:10- 11، راجع 2 صموئيل 21: 1، حزقيال 24: 7- 8، 35: 6) ↩︎
(تكوين 9: 6) ↩︎
(قضاة 9: 23- 24، 1 ملوك 2: 32) ↩︎
(مزمور 79: 10، 2 مكابيين 8: 3، راجع أيوب 16: 18- 21) ↩︎
(إشعيا 63: 1 – 6) ↩︎
(لاويين 17: 11- 12) ↩︎
(أعمال 15: 20- 29) ↩︎
(خروج 24: 3- 8) ↩︎
(راجع زكريا 9: 11، عبرانيين 9: 16- 21) ↩︎
(لاويين9: 12، ألخ) ↩︎
(خروج 12: 7 و 22) ↩︎
(لاويين 17: 11) ↩︎
(لا 4: 6- 7، ألخ) ↩︎
(لا16) ↩︎
(خروج 29: 20- 21، لاويين 8: 23- 24 و 30) ↩︎
(1 بطرس 1: 19) ↩︎
(متى 23: 29-36) ↩︎
(متى 27: 4) ↩︎
(متى27: 24- 25) ↩︎
(متى 26: 28) ↩︎
(روما 3: 25) ↩︎
(رومة 5: 9) ↩︎
(أفسس 1: 7) ↩︎
(أعمال20: 28) ↩︎
(أفسس 2: 13) ↩︎
(1 كولسي 1: 20) ↩︎
(1 كورنتس 10: 16- 17، 11: 25- 28) ↩︎
(1 كور11: 26) ↩︎
(عبرانيين 9: 14) ↩︎
(عبرانيين 9: 18- 28) ↩︎
(عبرانيين 10: 19) ↩︎
(عبرانيين12 : 24) ↩︎
(عبرانيين 10: 29، 13: 12) ↩︎
(رؤيا 1: 5، راجع 7: 14) ↩︎
(رؤيا 5: 9) ↩︎
(رؤيا 18: 24) ↩︎
(رؤيا 12: 11) ↩︎
(رؤيا16: 3-7) ↩︎
(رؤيا19: 13) ↩︎
(يوحنا 19: 31- 37) ↩︎
(1 يوحنا 5: 6- 8) ↩︎
(يوحنا 3: 5، 4: 13- 14) ↩︎
(يوحنا6: 53-56) ↩︎